إن سقوط النظام الديكتاتوري ليس معزولا بحال من الأحوال،
عن سياق الممارسات القمعية والاستبدادية التي تهمش بنية المؤسسات، وتشل روح
المبادرة لدى الأفراد ، وتستهدف طرق و وسائل التواصل الممكنة بين أفكار الفرد
والجماعة، على اعتبار أن مثل هذا التواصل، هو نشاط سياسي انقلابي يدخل في دائرة
المحرم والمحظور.
قطع قنوات التواصل
بدءً من الاستيلاء على منابر الإعلام وقمع الصحافة
الحرة، وتأميم أو فرض القيود على حركة الطباعة والنشر، ومرورا بإغلاق المنتديات، و
حظر الاجتماع في الأماكن العامة من دون موافقات أمنية مسبقة و انتهاء بفرض رقابة
على أي نشاط فردي يحاول إيصال أفكاره ورسائله المختلفة للآخرين؛ فإن النخب
السياسية و الاجتماعية المعادية للفكر
الشمولي، من رجال فكر وسياسة وحتى أدب وفن.. ستفقد - في ظل مثل هذه الممارسات -
حقها في التواصل الفكري الحر مع شرائح المجتمع، وستحرم من إمكانية تكوين علاقة
خلاقة قوامها التأثر والتأثير، و التفاعل الحي بين الفكر الفردي المستقل،
والممارسة الجماعية الباحثة عن أفق مختلف إلى هذا الحد أو ذاك، عن الزي الموحد
الذي يفرضه النظام الديكتاتوري في مناحي الحياة كافة.
في البداية يستهدف النظام الديكتاتوري من خلال هذه السياسة، رموز المعارضة البارزة ورجالها المؤثرين في الشارع، فيضيق عليهم
في مجالات عملهم، أو يطاردهم أمنيا وعسكريا، ويزج بهم في السجون، مختلقا شتى التهم
التي تبرر من وجهة نظره سجنهم وتعذيبهم لسنوات طويلة، أو دفعهم للتشرد في المنافي،
أو حتى إعدامهم باعتبارهم أعداء للشعب والثورة.. لكننا شيئا فشيئا نكتشف، أن النظام
الديكتاتوري سيعمد دائما وأبدأ، إلى اغتيال رموز المجتمع، وتهميش أصواتهم الحرة والمؤثرة،
حتى في المجالات التي لا تتصل بالعمل السياسي المباشر.. إنه يعمد لم إلى إلغاء صورة
الرمز، والصوت المؤثر في وجدان الناس وعقولهم لأنه لا يسمح سوى برمز واحد، وبطل
واحد، و قائد واحد، ومربي واحد، ونجم واحد، تتصدر صورته كل آفاق العمل والحياة..
ألا وهو الديكتاتور.
داخل النظام و خارجه أيضا
لا يسمح الديكتاتور حتى في داخل نظامه، أن يخرج من بين
حاشيته و وزرائه رجل يحترمه الناس، ويرون فيه رمزا لقيمة أو فكرة أو اتجاه.. فعقلية
ألتسلط و الطغيان، لا تسمح سوى بوجود أتباع وظلال لا رجال دولة.
وفضلا عن ذلك كله، فإن حاشية أي ديكتاتور تضم عادة
فئتين من أصناف الرجال:
- الأولى: رجال دولة ضعفاء ليسوا أكثر من ألعوبة سافرة
بيد الديكتاتور.. لا يتورع عادة عن إحراجهم، والتندر عليهم، وإبراز ضعفهم أمام
الآخرين متى اقتضت الحاجة.
- والثانية: رجال أقوياء في مواقع حساسة أمنيا، لكن
جلهم من المتورطين بارتكاب مجازر بعد أن تم اتخاذهم أداة لتنفيذ الجرائم والقضاء
على المعارضين، وترويع وإرهاب المجتمع.. والجميع في النهاية لا يستحق الاحترام،
ولا يمكن أن يشكل رمزا وطنيا منافسا في وجدان الناس.
أما الفئة الخاصة التي تتمتع ببعض التوازن والحرفية في
المهام التي تؤديها ، وفي احترام التقاليد التي تحكم عملها ، وهي فئة تتشكل حول
الديكتاتور انطلاقا من مواقع سابقة لعهده،
أو من بقايا
آليات عمل لم يطلها التخريب بعد ؟ فإن الديكتاتور سرعان ما يكتشف إمكانية أن تشكل حضورا
ما مستقبلا، فيستغني عن رجالها بطريقة هادئة، أو يضعهم عليهم شروط تدفعهم
للاستقالة والانسحاب.
وإذا كان الديكتاتور لا يسمح بوجود الرمز الوطني المنافس
داخل نظامه، فإن من الطبيعي ألا يسمح بظهور هذا الرمز من خارج عباءة النظام ، حيث
يبدو الخطر أشد على صورة الديكتاتور وعلى معاني تفرده المطلق.
ومن هنا تتحالف وسائل القمع والدعاية والإعلام معا ،
على منع ظهور أي شخصية سياسية أو وطنية تحظى باحترام فئات واسعة من الناس، وذلك
إما باستخدام وسائل الترغيب والترهيب مع الزعامات التقليدية واحتواها لكي تنضوي
تحت لواء الديكتاتور، أو بتلميع شخصيات
مهزوزة وبهلوانات مضحكة ودفعها للواجهة للتشويش على أصحاب الجدارة الحقيقية ممن
يمكن أن يكون لهم تأثير ما على الرأي العام، ولتعميق ذلك البون الشاسع في المقارنة
بين الديكتاتور وكل من حوله في السلطة وخارجها.
و إذا كان تاريخ الحكومات الديمقراطية، أو حتى شبه الديمقراطية،
يحفظ للأجيال أسماء الكثير من الشخصيات الوطنية البارزة ، التي كان لها مواقف مشهودة،
ومآثر باقية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب تلهم الشعور الوطني باستمرار،
فإن ليل الديكتاتور الطويل يطفئ كل من حوله من أبطال ورموز.. ليبقي صوته وصورته
ساطعة بالأباطيل والأكاذيب وشعارات عبادة الفرد والولاء المطلق لسياسة إلغاء العقل
والكرامة.
مجتمع يحطم النجوم:
وينعكس هذا على نفسية ومزاجية المجتمع، الذي يتعامل
بكثير من القسوة والإلغاء، مع النخب البارزة التي قد تلمع- بفضل مثابرتها وصلابتها
الشخصية - في مجالات الأدب والفن والإبداع.. فهو يطالبها بأن تجترح المعجزات لكي
تثبت جدارتها وقوة تأثيرها في حياة الناس، ويحملها كل قهر وعجز حياته اليومية،
فتغدو جرأة الشاعر أو مغامرة الصحفي لا معنى لها لأنها لم تفك أسر سجين، ولم تخفف
معاناة مضطهد، ويغدو إبداع الفنان الذي
بلغ مرتبة كبيرة من النجومية مشكوكا في أمره، لأنه ينضوي في كل ما يقدم تحت مظلة
السلطة ومصلحتها، مهما سعى للنقد والحديث عن الخطأ في أعماله.. ومهما حاول أن يوسع
الهامش الصغير المتاح لتقديم فن نظيف ضمن حدود الممكن، ولقول ما قد يبدو من الآخر
بطولة.
و المحصلة المنطقية لكل هذه الممارسات التي يشترك
المجتمع في صياغة آثارها وأبعادها من دون أن يدري، هي غياب نجوم المجتمع، وتحطيم
رموزه الحقيقة، وإقصاء نخبه البارزة، وتفريغها من المكانة الاعتبارية التي يمكن أن
تلعبها، وينبغي أن تلعبها في التواصل مع الشارع، والتأثير فيه، وتحريكه في وقت
الأزمات الخانقة.. وهذه كوارث لا علاقة لها بقدرة المعارضة على الصمود والاستمرار
والمقاومة بالضرورة، بل هي وثيقة الصلة، بآلية ممنهجة لتحطيم الفرد في الأنظمة
الديكتاتورية، ولمحاصرة العقل المبدع، واغتيال جوهر الروح الإنسانية التي ترتد، في
أكثر مواقفها بطولة، نحو أقصى درجات المقاومة والتشبث بالحياة، لكنها تنسى أو
تنشغل في مقاومتها البطولية تلك، عن تطوير أساليب الحضور، و إنضاج أدوات التأثير
الفاعل في ساحة الحياة العامة الملبدة بغيوم الخوف ووحشة الطغيان.
أين البديل
وعندما تدق ساعة الحقيقة، ويسقط النظام الديكتاتوري
بفعل الضربات الداخلية المتفجرة، أو الظروف الخارجية المتغيرة.. فإن الكارثة الأولى
التي يواجهها المجتمع، والسؤال الأول الذي يلح على الجميع هو: من البديل؟
وحين يتأمل الناس حولهم، بين ركام الخراب الذي يملأ
الأفق، سيكتشفون في لحظة عجز وتأزم.. أنه بالفعل لا بديل للديكتاتور.. وأن كل
البدلاء المطروحين على الساحة لا يملكون الشرعية الكافية، لأنهم لا يستحقونها، و
لأن من يستحقها قد عزل وهمش، ومنع من الوصول بأفكاره إلى الناس، ومن بناء قاعدة تمثيل
شرعية داخل المجتمع، على أساس العمل الوطني المخلص والعلني، الذي كان محظورا أيام
الديكتاتور.
وبالطبع ستدفع المجتمعات والأوطان في لحظات الأزمات، ثمن
غياب الزعامات والقيادات الوطنية المؤهلة والقادرة على ملء الفراغ الذي تركه
الديكتاتور على شكل تركة سوداء حبلى بالمصائب والكوارث والآلام، وسيكون ثمن غياب مثل
هذه الرموز والزعامات داخل النظام من جهة وفي أوساط المعارضة التي جاهدت طويلا من
أجل البقاء وحسب من جهة أخرى؛ باهظا ومكلفا بكل المقاييس، إن لم تتح الظروف الاستثنائية
الخاصة نشوء زعامات نظيفة ، في غفلة من يد
البطش، تكون ذات ماض وطني عريق، أو ذات تأثير متوهج في نفوس الناس.
لكن الظروف الاستثنائية لا تكون دائما في مصلحة الشعوب وهي تصحو من ليل الديكتاتورية
الطويل على فجر دام لن يكون مشرقا بشمس الحرية وحدها . . وهكذا أمسى الوطن
المنهار، بلا بديل مقبول من الجميع.. وبلا بديل يحظى باحترام وثقة الجميع، لأنه
حرم من بناء مثل هذا البديل لسنوات. وريثما يخلق ، عن طريق الممارسة الديمقراطية
السليمة ، سيكون على المجتمعات أن تنظف الساحات العامة والشوارع من صور الديكتاتور و تماثيله ونصبه التذكارية و
أقواله المأثورة على أمل أن يكون الغد أكثر تعددية و أكثر غنى برجال و شخصيات و
رموز يزينون سماء الوطن و يضيئون عتمة الذاكرة
من جديد.
عن كتاب: الصندوق الأسود للديكتاتورية (بتصرف قليل).