بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر النظام التعليمي لأي دولة؛ العمود الفقري في التنمية، حيث أن القوة البشرية هي الثروة الأساسية و المعين الذي لا ينضب، طبع إذا تم الاهتمام بها و تطويرها عن طريق نظام دقيق يعتمد أربعة محاور أساسية هي:
1. التربية (الاجتماعية و النفسية و الدينية)
2. التعليم (بمراحله المختلفة)
3. التدريب (و هي الممارسة الفعلية و المعايشة و التطبيق العملي لعمليات الإنتاج المختلفة)
4. التثقيف (عن طريق الإعلام و توفير مصادر الثقافة الحرة و الترغيب بها)
و هذه المحاور تتضافر فيما بينها لبناء الفرد، و بالتالي المجتمع المنتج الفعال، و لا يمكن إهمال أي منها أو استبدالها بوسيلة أخرى.
و كمقارنة بسيطة؛ فإن إنتاج برميل النفط يكلف حوالي 10$ و يباع بـ 100$ (في المتوسط) أي حوالي 10 أضعاف، بينما يكلف جهاز الهاتف النقال الحديث حوالي 1.0$ (بما في ذلك سعر المواد و استهلاك الآلات)، و يباع بـ 300$ (في المتوسط) أي حوالي 300 ضعف، و بالطبع اليد العاملة تكلف غاليا، و ذلك هو الرخاء بعينة (تعمل و تنتج بكفاءة و تتقاضى أجرا مجزيا).
ولعل من المناسب قبل تحديد التخصصات العلمية التي يجب الاهتمام بها و التركيز عليها، وضع إستراتيجية شاملة للدولة و تحديد المجالات الاقتصادية الأمثل التي سيتم التركيز عليها، و منها يتم تحديد احتياجات سوق العمل و من ثم مجالات التخصص العلمي العالي و مجالات البحوث. كما أن ذلك يتحكم في المواد العلمية و المناهج التي سيتم تدريسها، و مجالات التدريب المطلوب التوجه إليها، و البحوث المطلوب إجراؤها للوصول إلى نتائج علمية و عمليه تحل المشاكل التي تواجهها المؤسسات الإنتاجية المختلفة.
و من هنا نستنتج أن العملية التعليمية يجب أن تكون عملية مكملة و داعمة و مطورة للعملية الإنتاجية، و إذا لم نصل إلى هذه النتيجة ، أي لم تؤدي العملية التعليمية إلى إنتاج ذو مردود اقتصادي، فإن التعليم برمته يعتبر غير ذو جدوى.
أما إذا اقتنعت المؤسسات الإنتاجية – الخاصة و العامة و المشتركة - بجدوى العمليات التعليمية و البحثية فإنها ستشارك حتما في تمويل تلك العمليات، إلا أن عبئ التمويل الأكبر يبقى من واجب الدولة، لأن المواطن الذي لا يتم تأهيله بشكل جيد و فعال يبقى كلاً و يشكل عبأً على اقتصاد الدولة بدلا من أن يساهم في تقوية ذلك الاقتصاد و الرفع من مستواه، و قد يؤدي إلى تآكل ذلك الاقتصاد و انهياره في كثير من الأحيان، و لعل من المؤسف أن تتردد على مسامعنا عبارات مثل مكافحة البطالة، و توفير مواطن عمل، ما يدل على أننا نتعامل مع المواطن على أنه مشكلة، بدل أن ننظر إليه على أنه ثروة قومية لا تضاهيها ثروة، و هذه الحالة تنطبق على ما يسمى بـ (الدولة الفاشلة).
و في هذا الصدد نشير إلى أن التمويل الضعيف للتعليم هو كعدم التمويل، بل لعله يكون أسوأ، حيث انه ينتج أشباه متعلمين لا يستطيعون الإنتاج، و يرفضون العمل كعمال عاديين أو حرفيين، نظرا للشهادات العليا التي يحملونها.
و من مصادر التمويل الأخرى التي قد تتوفر خاصة في المؤسسات التعليمة التقنية المتمثلة في المعاهد التدريبية العليا و المتوسطة، هي فتح الباب لبيع بعض المنتجات التي يصنعها الطلاب أو صيانة بعض الآليات (كالسيارات و الأجهزة الإلكترونية و غيرها) لصالح مواطنين أو جهات عامة و خاصة، و تحت إشراف أساتذة و مدربين أكفاء، إلا أن ذلك يبقى محدود التأثير و لا يعول عليه، مقارنة بتمويل الدولة. و لعل فكرة أقسام التمويل الذاتي التي استحدثت خلال السنوات الماضية هي فكرة جيدة، إلا أن بذور الفشل زرعت فيها من الأصل (كأي عمل أو فكرة أخرى وضعت في نظام الطاغية المنهار) و المتمثلة في الإجراءات البيروقراطية التي تنص على تسليم كل مداخيل المؤسسات التعليمية الذاتية إلى الخزينة العامة، و من ثم طلب ما يحتاج منها مرة أخرى و هو ما لا يحدث أبدا، حيث أنها من الأفكار الشيوعية التي لا تتمشى مع الطبيعة البشرية أبدا، هذا بالإضافة إلى الفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة و المتمكن منها حتى النخاع.
و لعل من المناسب هنا أن نذكر بعض الأمثلة لاهتمام الدول الطامحة إلى النهوض بتمويل التعليم (مع مكافحة الفساد طبعا حتى لا تسرق تلك الأموال)، فمن الماضي نذكر اهتمام الدولة الليبية بذلك حيث بلغت مخصصات قطاع التعليم سنة 1968 م. 41,245,770 جنيه ليبي من أصل الميزانية العامة المقدرة بـ 170,000,000 جنيه ليبي ، و هي أعلى ميزانية خصصت لقطاع من القطاعات، يليها مباشرة ميزانية قطاع الأمن العام (وزارة الداخلية) بـ 31,202,500 جنيه ليبي، أما في العصر الحديث فنضرب مثلا بعدوّتنا الشهيرة إسرائيل حيث بلغت مخصصاتها للتعليم 8,400,000,000.00 دولار سنة 2008، أي مقدار ميزانية ليبيا بالكامل لنفس السنة تقريبا.
و من المهم هنا أن نذكر بأن طلب العلم رغم أنه شاق مرهق في كثير من الأحيان، إلا أن الكثير من الدول و المؤسسات ابتكرت وسائل لتيسير تلك العملية من أهمها:
1. انتقال الطالب من مرحلة إلى أخرى إلا بعد استيعاب الحد الأدنى من المادة العلمية التي تعتبر أساسا لما بعدها، و ذلك عن طرق توفير الأساتذة الأكفاء و الابتعاد عن الترحيل و القضاء على ظاهرة الغش تماما.
2. تخليص المناهج من الكثير من الحشو و الإطناب و المادة العلمية غير الضرورية (تشمل مواد و مناهج برمتها) التي تؤدي إلى إرهاق الطالب و الأخذ من وقته و جهده.
3. إتباع طرق التعليم التفاعلية بدلا من أسلوب التلقين التقليدي المستهلك.
4. الاستخدام الفعال و المكثف لوسائل الإيضاح و الوسائل الإلكترونية و التقنية الحديثة.
5. التركيز على التدريبات العملية بشكل مواز للتعليم النظري.
6. الاهتمام بالمواد ذات الطبيعة الإبداعية، مثل التربية الفنية، و تطويرها و توفير الإمكانيات لممارستها و تشجيع الطالب عليها.
7. الاهتمام بإخراج الكتب المدرسية و تطويرها المستمر من حيث التنسيق و الترتيب و الإكثار من الرسومات و الصور الواضحة واستعمال الألوان و غيرها.
8. ترغيب الطلاب في تحصيل العلوم عن طريق توفير بعض الأمور الترفيهية كالاهتمام بالنشاطات الرياضة، و المسابقات العلمية، و مسابقات المخترعين و المبدعين، و الهوايات و الموسيقى و المخيمات و الرحلات العلمية المدروسة بعناية.
9. تحفيز الطلاب لبذل المزيد من الجهد و التحصيل العلمي عن طريق تقديم جوائز و مكافآت عينية أو معنوية قيمة للطلاب و الخريجين المتفوقين، مثل: توفير فرص عمل ممتازة عند التخرج، الإيفاد في بعثات علمية و دورات خارجية و داخلية، الإيفاد في رحلات سياحية أو دينية كالحج أو العمرة، تقديم هدايا و جوائز.تساعد على التعلم مثل أجهزة حاسب أو اشتراك مجاني في شبكة المعلومات أو اشتراكات مجانية في مجلات علمية و ثقافية، أو مجموعات من الكتب و الأقراص العلمية. مع الابتعاد عن المحاباة و المحسوبية في ذلك.
و لعل من أهم الوسائل الفعالة المساعدة على تطوير العملية التعليمية و التدريبية و تيسيرها، هي توفر و تنوع التقنيات الرقمية الحديثة، و رخص أسعارها و سهولة استخدامها، و مما ننصح بالتركيز عليه ما يلي:
1. توفير أعداد كافية من أجهزة الحاسب و العمل على تطوير معامل الحاسبات باستمرار، و إدخال استخدامات الحاسب في تدريس كل المواد، و ليس فقط مادة الحاسبات أو المواد القريبة منها.
2. توفير تقنيات العرض الرقمية المختلفة مثل أجهزة العرض الضوئي و المرئي و السبورات الذكية، واستخدامها بشكل مكثف و فعال.
3. توفير نقاط اتصال متعددة بشبكة المعلومات العالمية لكل معهد، على أن تكون عالية السرعة و الكفاءة، حيث يمكن استخدام طريقة الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية أو الخطوط المفتوحة، و الابتعاد عن الطرق التقليدية الاحتكارية عديمة الفعالية، مع مطالبة شركات الاتصالات بزيادة سرعة و فاعلية خطوط الاتصال بالشبكة إلى أقصى حد تسمح به التقنيات العالمية الحديثة.
4. توفير صالات للاتصال بشبكة المعلومات (net cafés) بكل معهد، و بأسعار رمزية، على أن يستخدم عائدها لتطوير تلك الصالات أو لأي أغراض علمية أخرى.
5. توفير مكتبات إلكترونية كبيرة من الأقراص، مع إمكانية نسخها و طباعتها و تحويلها أو أي جزء منها إلى كتب ونسخ ورقية.
6. توفير إمكانيات التصوير و المسح الضوئي، مجانا أو بأسعار رمزية لكافة طلاب و أساتذة و مدربي المعاهد و الجامعات.
7. توفير إمكانيات التصوير الرقمي (الثابت و المتحرك) و المعالجة و المونتاج، لتوثيق كافة الإنجازات العلمية و البحثية و الرحلات العلمية و الترفيهية و نشاطات الطلاب و الأساتذة و المدربين و غيرها من المناسبات التي تتم داخل المعهد.
8. إنشاء موقع رسمي تفاعلي لكل معهد أو كلية على شبكة المعلومات، ليكون حلقة اتصال قوية مع طلاب المؤسسة التعليمية و أساتذتها و زوارها، على أن تنشر به كافة المعلومات التي تهم مرتادي الموقع، مثل التعريف بالمؤسسة و أقسامها العلمية و الإدارية، و لوائحها و نظمها و قوانينها، وإجراءات و مواعيد القبول و الامتحانات و دراجات أعمال الفصل و النتائج النهائية ، و النشاطات و المناسبات التي تتم بالمؤسسة، و الإعلانات المتنوعة و غيرها، كما تستقبل المؤسسة عن طريقه، المقترحات و الملاحظات و الطلبات و التظلمات و الشكاوى و غيرها.
و الجدير بالذكر أن الجامعات و المعاهد العليا، نتيجة لطبيعتها و بيئتها العلمية، و توفر الكفاءات والإمكانيات العلمية و البحثية بها، تعتبر – في حال الاهتمام بها - مصدرا هاما من مصادر العلوم و التطوير، نظرا لكونها مراكز بحثية، إضافة إلى طبيعتها التعليمية التقليدية، و وجود أعداد كبيرة من الطلاب الحريصين على النجاح و التفوق، يشكل فرصة نادرة للحصول على المعلومات من مصادر مختلفة و بطرق متنوعة، و بالتالي فإن الاهتمام بإجراء البحوث العلمية , و المشاريع الطلابية سواء كانت لغرض التخرج أو تحصيل الدرجات العلمية العليا، أو حتى كأعمال فصلية صغيرة، تعد مصدرا لا ينضب من مصادر المعلومات، و التي يجب على المؤسسات الإنتاجية و العلمية أن تستغلها بشكل منظم و ذكي، لتطوير عمليات الإنتاج في شتى المجالات، كما أسلفنا.
و من المهم أيضا أن نشير إلى ضرورة الاهتمام بالموارد البديلة و الطاقات المستدامة التي من شأنها المحافظة على البيئة، و التقليل من الاستهلاك و الهدر للموارد الأساسية للدولة، سواء خلال عمليات التعليم والتدريب أو من خلال البحوث العلمية، و من أهم تلك الموارد:
1. الغاز الطبيعي الذي يتم حرقه حاليا، و منذ أكثر من 50 عاما، و الذي يعتبر مصدرا أساسيا من مصادر الطاقة المتوفرة و سهلة الاستخدام، و لعل من أسهل استعمالاته و أكثرها جدوى؛ تصنيع الزجاج و الكريستال الذي يتم عن طريق تسخين و إذابة الرمال المتوفرة عند مصادر الغاز نفسها، و ضغط و تصدير ما يتبقى منه (كما تفعل الدول المجاورة).
2. الطاقة الشمسية التي يمكن تحويلها إلى طاقة كهربائية عالية، سواء عن طريق الخلايا الشمسية التقليدية، أو تشغيل المولدات البخارية عن طريق تسخين المياه بالمرايا العاكسة، أو عن طريق القضبان الماصة للأشعة فوق البنفسجية (التي تمر حتى من خلال السحب الكثيفة)، علما بأن ليبيا بها مساحات شاسعة غير مستغلة و أعلى نسب من السطوع في العالم.
3. تدوير القمامة و الخردة، و التي تعتبر ثروة قومية هائلة تستخدم لإنتاج العديد من المنتجات الاقتصادية المتنوعة، بدأ بالغاز الطبيعي، و انتهاء بالسيارات، مرورا بالمناديل الورقية التي تقلل من استهلاك الأشجار.
4. تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة الشمسية، و تصدير ما ينتج عنها من أملاح و كيماويات.
5. الطاقات المتجددة الأخرى مثل طاقة الرياح (المتوفرة بكثرة في المناطق الجبلية و الصحراوية) و طاقة الأمواج المتوفرة بالمناطق الساحلية خاصة في فصل الشتاء، ما من شأنه التقليل من استهلاك الكهرباء الناتجة من المحروقات، و بالتالي محافظة أكثر على البيئة.
6. الآثار و علومها وتقنياتها، وتشجيع الاستكشافات الأثرية بشتى أنواعها (مبان، مقتنيات، مخطوطات، الخ.) و من مختلف العصور، و العمل على صيانتها و توثيقها و المحافظة عليها، و الدعاية لها.
7. الصناعات التي تتوفر موادها الأولية محليا، مثل صهر و تنقية و سبك الحديد، و الأسمنت، و السيراميك، و الزجاج، و السليكون (الإلكترونات) و الصناعات التي يدخل فيها معدن المايكا (كالدهانات و المواد العازلة)، و تعليب الأسماك و المنتجات البحرية.
هذا كما ننبه إلى ضرورة الاهتمام بهندسة و كيمياء المعادن، و الحرص بقوة على الدخول إلى عصر الصناعة عن طريق التركيز على تدريس الهندسة الميكانيكية و الهندسة العكسية، و توفير كافة المعدات و التجهيزات و الخبرات التي تساعد على ذلك من الداخل و الخارج.